كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وليس لقائل أن يقول: وإذا كان ذلك كذلك، فلم يرزقون ويحسن إليهم.
لأن نعمة اللّه تعالى لا تنافي استعظامه للكفر، فكذلك إقرارهم على المقام في بلادنا بأخذ الجزية لا تنافي استعظام كفره.
وإذا تقرر ذلك أمكن أن يقال:
الجزية عقوبة ليحصل بها زجره عن كفره.
والعقوبة منقسمة إلى ما يكون زجرا لمصلحة المعاقب، وإلى ما يكون جزاء.
فأما الجزاء فلم يشرع لمصلحة المعاقب، فعلى هذا لا نقول: يجب على الكافر الجزية متى اقتضت عصمة، فكأنها دفع القتل عنه ليتدبر قبح القبح فيسلم، فجرى مجرى العبادات، وما يجب فعله لا يعد من العقوبات.
فإن قيل: إنما يجب عليهم ما يحسن لا ما يقبح ويحرم، فكيف يحسن منه دفع الجزية، ومن الإمام أخذها، وإذا أخذناها منه على طريق عصمة دمه، فقد رضينا بمقامه على كفره، وهم متى أرادوا دفع الجزية فقد أرادوا مقامهم على الكفر، وذلك يوجب قبح الدفع والأخذ، ولو كانوا بالجزية حاقنين دماءهم كما بالإسلام، كانوا مخيرين بينهما، فلا يمكن أن يقال:
إن الجزية واجبة تحقيقا، ولكن يقال إن الجزية إضجار ومعاقبة ليرجع عن كفره؟
ويجاب عن هذا بأن يقال:
بأن الذي في الكافر من كفره، يقتضي إباحة دمه، لكن حرمة الكتاب تقتضي استبقاءه لما في استبقائه من توقع إسلامه، ولولا ذلك لكان القتل أولى به، وإذا كان كذلك فقد دفع الكافر إلى القتل، أو دفع الجزية، وفي دفعها إزالة القتل، فواجب عليه أن يفعل ذلك لإزالة الضرر العظيم.
فإن قيل: إن القتل امتنع ببذل الجزية لما في أخذ الجزية من توقع إسلامه، والمقصود ذلك، فيلزم على مساقه أن يكون ذلك محتوما، ويجب علينا أخذ الجزية منه، ويمتنع قتله.
والجواب: أن الكافر إذا لم يعرف حسن الإسلام، فقد دفعه الشرع إلى أحد أمرين.
إما القتل، وإما الجزية، وهو يعلم أن الجزية أهون عليه من القتل، وفي الجزية حقن الدم، فيحسن بقضية العقل والشرائع كلها دفع الجزية، تحقيقا لمقصود دفع شر القتل، ووجب بحكم شرعنا الجزية عليه، لما فيه من حسن توقع إسلامه، ودفع قتل يعجله إلى النار، ففي ذلك مصلحة للكافر بحكم دينه الذي هو عليه عند جهله بحسن الإسلام، وبحكم ديننا الذي به عرفنا حسن الإسلام، وتوقعه منه ببذل الجزية، إلا أنه إذا امتنع فلا يمكن تقريره في ديارنا على كره منه، لما فيه من غائلة هربه وترصده لأذية المسلمين، فوجب قتله لدفع الضرر، أما إذا توطن وتأهل وطلب منا الذمة اندفعت غائلته، فحسن بذل الجزية لهذا المعنى.
ومعلوم أن من أكره على دفع ماله بالقتل، وجب عليه دفع ماله لدفع شر القتل عن نفسه. فعلى هذا يجب على الذمي بذل الجزية لدفع شر القتل عن نفسه، ويحسن من المسلمين أخذها منهم، لما يتوقع في ذلك من إسلامه، وقد قيل: يحسن أخذ الجزية في مقابلة مساكنتهم لنا وذبنا عنهم.
فالكافر ليس يبذل على هذا القصد، ولكن يبذلها لدفع القتل، ووجه الوجوب عليه هذا.
فأما المسلم، فإنما يأخذها لحق المساكنة، ولأجل ذبنا عنهم، فقيل لهم: فإذا وجبت الجزية عليهم لهذا المعنى، فلابد أن يكون الحقن مقصودا، وإنما يكون الحقن مقصودا، وتقرير هم في ديارنا مقصودا معنيا، إذا كان البقاء على الكفر مرادا، فإن من ضرورة تقرير الكافر في ديارنا والتزام الذب عنه، الرضا بفعله، وارادة الكفر منه، فلابد أن تكون الجزية عقوبة وزجرا عن الكفر، حتى تكون إرادة الزاجر كراهة المزجور عنه.
فأما إذا كانت الجزية عرضا عن المساكنة أو عن الذب، كان الذب مقصودا، ووجوب تعظيمه وصيانته والذب عنه، يقتضي إرادة الكفر لا محالة.
وإن جعلت الجزية لدفع القتل، فدفع القتل واجب، كما أن الإسلام وجب لدفع العقاب، ودفع العقاب واجب، فإذا يجب أن يكون مخيرا بين الإسلام الذي يدفع به العقاب، وبين الجزية التي يدفع بها القتل، فعلى هذا يمكن أن يكون اختيار من اختار، كون الجزية في مقابلة الذب والساكنة ضعيفا، وإنما المعتمد كون الجزية دافعة للقتل في حق الكافر، ونحن نأخذها لمنفعة المسلمين، وغرضنا منها توقع إسلامه، وفيه مصلحة له من هذه الجهة في دفع القتل عنه، ومنفعة للمسلمين من هذه الجهة لا يبعد وجوبها.
وعلى أنه يقال: متى قلنا إن الجزية تقتضي العصمة كالإسلام، فإنما نقول ذلك في أحكام الدنيا، وفي أحكام الدنيا كلمة الشهادتين مثل الجزية.
ونحن نقول: يجب على الكافر كلمة الشهادتين، ولا تنفعه الشهادة في إزالة العقاب، وإنما ينتفع بالتوبة والإيمان والمعرفة، وكذلك لا يحقن الدم، ويتبين كيف يحسن دفع الجزية وأخذها وكيف يقبح.
وأما مقدار الجزية، فليس في كتاب اللّه تعالى، وهو مأخوذ من السنة، ويجوز أن يكون للاجتهاد مدخل فيه على ما بيناه في الفقه.
والذي يدل عليه القرآن، أن الجزية تؤخذ من الرجال المقاتلين، فإنه تعالى قال: {قاتِلُوا...} {... حَتَّى}.
فيقتضي ذلك وجوبها على من يقاتل، ويدل على أنه ليس على العبد وإن كان مقاتلا لأنه لا مال له، وقد قال تعالى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ}، ولا يقال لمن لا يملك: حتى تعطي، والظاهر يقتضي أنه المفتدي بماله، وأن ذلك كالعقوبة، فلا تجب على السيد بسبب عبده.
واختلف العلماء فيمن دان من المشركين بدين أهل الكتاب بعد المنهب، وظاهر القرآن يقتضي القبول لأنهم من أهل الكتاب.
وكما ليس في القرآن بيان مقدار الجزية المؤداة، فليس فيه بيان مدة أداء الجزية، وتكررها بتكرر الحول، وإنما فيه بيان أن الجزية ينتهي بها وجوب المقاتلة، والظاهر يقتضي وجوبها مرة واحدة.
وأبو حنيفة لا يرى تعدد وجوبها بتكرر الحول، بل يقول: إنهم يقاتلون إلى أن يؤدوا الجزية، إلا أنها تؤخذ منهم عند انفصال السنة، ولا ذكر لذلك في القرآن.
ويدل قوله: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ}.
على أن بالإسلام يزول هذا المعنى، فلا جرم لا خلاف أنهم إذا أسلموا فلا يؤدون الجزية عن يد وهم صاغرون.
والشافعي لا يأخذ بعد الإسلام على الوجه الذي قاله اللّه تعالى، وإنما يقول: الجزية دين، وجب عليه بسبب سابق، وهو السكنى أو لدفع شر القتل، فصار كالديون كلها، فإذا ثبت للشافعي أنها دين، فإنها لا تسقط، وإذا كان وجوب الدية على نحو وجوب الديون، وفيها غرض، وهو دفع القتل، فهي طاعة مأمور بها، والذمي قد أطاع اللّه تعالى بدفعها، إلا أن ثواب طاعته محبط، كثواب الطاعات كلها، فهذا تمام ما أردنا بيانه.
وأبو حنيفة لا يرى الجزية واجبة على الذمي طاعة، بل يقول يقام عليه إضجارا له واتعابا، وذلك لا يكون طاعة في حقه، وإنما هي طاعة في حقنا، فأما في حق الدافع فلا، فهم إذا امتنعوا من الجزية وجب قتالهم، وإذا بذلوا الجزية امتنع قتالهم، إلا أن الجزية عندهم عقوبة زاجرة عن الكفر، بالإضافة إلى الذمي والذي يخالط المسلمين، فتوقع الإسلام منه يزيد على توقعه ممن لا يخالطونا، فهذا تمام هذا المعنى على المذاهب كلها.
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} [الآية: 34].
ذكر الأصم: أنه راجع إلى أهل الكتاب، لأنه مذكور بعد قوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ}.
وغيره حمل ذلك على كل كافر، وذلك مدلول اللفظ، ومعطوف على المتقدم باللفظ العام، لأنه وصف لما تقدم، ولأنه مستقل، وإن لم يتعلق بما تقدم.
وقد روي عن أبي ذر رضي اللّه عنه أن قائلا قال له وهو بالربذة:
ما أنزلك هذا المنزل؟
فقال: كنا بالشام فقرأت هذه الآية، فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب لا فينا.
فقلت: لا، بل فينا وفيهم.
وكتب معاوية إلى عثمان أن أبا ذر يطعن فينا ويقول كذا، فكتب إليّ عثمان بالإقبال إليه، فأقبلت، فلما قدمت المدينة، كثر علي الناس حتى كأنهم لم يروني فآذوني، فشكوت إلى عثمان فقال: تنح قريبا، فتنحيت إلى منزلي هذا.
وأكثر العلماء على أن الوعيد على الكنز على من يمنع حق اللّه تعالى فيه، فما لم يؤد حق اللّه تعالى منه، فهو كنز كان على وجه الأرض أو تحته.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال: «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلا جيء يوم القيامة فيحمى ويكوى به جنبه وجبينه».
وقال: «من له مال فأدى زكاته فقد سلم».
ولا خلاف في جواز دفن المال المزكى أو غير المزكى إذا أدى زكاته من موضع آخر.
وقد روي عن بعض السلف، أن المراد بالآية العدول عن الإكثار وجمع المال، وعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «يجيء كنز أحدكم شجاع أقرع فإذا رأى صاحبه هرب منه فيطلبه فيقول: أنا كنزك».
وعلى الجملة، المعقول من الآية تعليق الوعيد على من كنز ولم ينفق في سبيل اللّه، ولم يتعرض للواجب وغيره، غير أن صفة الكنز لا ينبغي أن تكون معتبرة، فإن من لم يكنز ومنع الإنفاق في سبيل اللّه، فلابد أن يكون كذلك، فلا أثر لصفة الكنز، وليس في الآية بيان الواجب من غيره، ولكن من المعقول أن صورة الكنز كما لا تعتبر، فالامتناع من أداء ما ليس بواجب لا يعتبر أيضا، وإذا لم يعتبر هذا ولا ذاك جملة، فليس إلا أن المراد منع الواجب من الزكاة وغيره، إلا أن الذي يخبأ تحت الأرض هو الذي يمنع إنفاقه في الواجبات عرفا، فلذلك خص الوعيد به.
وإذا كان المقصود من ذكر الكنز أن صاحبه يمسكه ولا ينفق منه في سبيل اللّه تعالى، فظن قوم أن من صاغ الدراهم حليا ولا يزكي منه فهو كانز.
وهذا استدلال بطريق المعنى، وإلا فاللفظ من حيث الظاهر لا يدل عليه أصلا.
ويحتمل أيضا من وجه آخر، وهو أن هذه الآية إنما نزلت في وقت شدة الحاجة وضعف المهاجرين وقصور يد رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم، عن كفايتهم، ولم يكن في بيت المال ما يسعهم، وكانت السنون والحوائج هاجمة عليهم، فنهوا عن إمساك شيء من المال زائد على قدر الحاجة، ولا يجوز ادخار الذهب والفضة في مثل ذلك الوقت، وإلا فقد ثبت بالنقل المستفيض عن النبي عليه الصلاة والسلام إيجابه في مائتي درهم، خمسة دراهم، وفي عشرين دينار، نصف دينار، ولم يوجب الكل، واعتبر مدة الاستنماء، وكان في الصحابة ذوو ثروة ونعمة وأموال جمة، مثل عثمان وعبد الرحمن بن عوف.
أو يحتمل أن قوله: {ولا ينفقونها}، أي لا ينفقون منها تحذف من، وبينه في مواضع أخر من قوله تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً}.
وعن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ}، فكبر ذلك على المسلمين، فقال عمر:
أنا أفرج عنكم، فانطلق فقال: يا نبي اللّه إنه كبر على أصحابك هذه الآية.
فقال عليه الصلاة والسلام: «إن اللّه تعالى لم يفرض الزكاة إلا ليطيب ما بقي من أموالكم، وإنما فرض المواريث لتكون لمن بعدكم»، فكبر عمر.
فأبان بهذا الحديث أن المراد به انفاق بعض المال لا جميعه، وأن قوله: {الَّذِينَ يَكْنِزُونَ} المراد به منع الزكاة.
وروى سهيل بن أبي صالح عن أبيه عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلم: «ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاة كنزه إلّا جيء به يوم القيامة وبكنزه فيكوى به جنبه وجبينه حتى يحكم اللّه تعالى بين عباده».
فأخبر في هذا الحديث، أن الحق الواجب في الكنز هو الزكاة دون غيرهما، إلى قوله تعالى: {فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ}.
يعني أنه لم يؤدوا زكاته.
وروى ابن عمر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم أنه قال: «الذي لا يؤدي زكاته يمثل له ماله يوم القيامة شجاع أقرع له ذبيبتان تلزمه أو يطوقه، فيقول أنا كنزك أنا كنزك»، فأخبر أن المال الذي لا يزكى هو الكنز، فبان به أن الكنز اسم لما لا يؤدى زكاته في عرف الشرع، والوعيد انصرف إليه، فاعلمه.
قوله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتابِ اللَّهِ} [الآية: 36].
وظاهر ذلك يدل على أن الواجب تعليق الأحكام المتصلة بالشهور والسنين، من عبادات وغيرها، بالأشهر العربية دون الشهور التي يعتبرها العجم والروم، وإن شهور الروم وإن لم تزد على اثني عشر، ولكنها مختلفة الأعداد، منها ما يزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص، وشهور العرب لا تزيد على ثلاثين، ومنها ما ينقص، والذي ينقص لا يتعين له شهر، وإنما تفاوتها في النقصان والتمام على حسب سير القمر في البروج، ثم قال تعالى: {مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}.